كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقوله: {حتى} يريد في الآخرة، والتأويل الأول في الملائكة هو الصحيح، وهو الذي تظاهرت به الأحاديث، وهذا بعيد. انتهى.
وإذا كان الضمير في {عن قلوبهم} لا يعود على {الذين زعمتم} كان عائدًا على من عاد عليه الضمير في قوله: {ولقد صدّق عليهم إبليس} ويكون الضمير في {عليهم} عائدًا على جميع الكفار، ويكون حتى غاية لقوله: {فاتبعوه} ويكون التفزيع حالة مفارقة الحياة، أو يجعل اتباعهم إياه مستصحبًا لهم إلى يوم القيامة مجازًا.
والجملة بعد من قوله: {قل ادعوا} اعتراضية بين المغيا والغاية.
قال ابن زيد: أقروا بالله حين لا ينفعهم الإقرار، فالمعنى: فزع الشيطان عن قلوبهم وفارقهم ما كان يطلبهم به، {قالوا ماذا قال ربكم}.
وقال الحسن: وإنما يقال للمشركين {ماذا قال ربكم} على لسان الأنبياء، فأقروا حين لا ينفع.
وقيل: {حتى} غاية متعلقة بقوله: {زعمتم} أي زعمتم الكفر إلى غاية التفزيع، ثم تركتم ما زعمتم وقلتم: قال الحق. انتهى.
فيكون في الكلام التفاوت من خطاب في {زعمتم} إلى غيبة في {فزع عن قلوبهم}.
وعن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فإذا أذن فزع ودام فزعه حتى إذا أزيل التفزيع عن قلوبهم.
قال بعض الشافعين من الملائكة لبعض الملائكة: {ماذا قال ربكم} في قبول شفاعتنا؟ فيجيب بعضهم لبعض: قال أي الله الحق، أي القول الحق، وهو قبول شفاعتهم، إذا كان تعالى أذن لهم في ذلك، ولا يأذن إلا وهو مريد لقبول الشفاعة.
وقال الزمخشري: فإن قلت بم اتصل قوله: {حتى إذا فزع عن قلوبهم}؟ ولا شيء وقعت حتى غاية له.
قلت: بما فهم من هذا الكلام من أن ثم انتظار الإذن وتوقفًا وتمهلًا وفزعًا من الراجين للشفاعة والشفعاء، هل يؤذن لهم أو لا يؤذن؟ وأنه لا يطلق الإذن إلا بعد ملي من الزمان وطول من التربص.
ومثل هذه الحال دل عليه قوله، عز من قائل: {رب السموات والأرض وما بينهما الرحمن لا يملكون منه خطابًا يوم يقوم الروح والملائكة صفًا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابًا} كأنه قيل: يتربصون ويتوقفون مليًا فزعين وهلين.
{حتى إذا فزع عن قلوبهم} أي كشف الفزع من قلوب الشافعين والمشفوع لهم بكلمة يتكلم بها رب العزة في إطلاق الإذن.
تباشروا بذلك وسأل بعضهم بعضًا: {ماذا قال ربكم}؟ قال الحق، أي القول الحق، وهو الإذن بالشفاعة لمن ارتضى. انتهى.
وتلخص من هذا أن حتى غائية إما لمنطوق وهو زعمتم، ويكون الضمير في {عن قلوبهم} التفاتًا، وهو للكفار، أو هو فاتبعوه، وفيه تناسق الضمائر لغائب.
والفصل بالاعتراض والضمير أيضًا للكفار، والضمير في {قالوا} للملائكة، وضمير الخطاب في {ربكم} والغائب في {قالوا} الثانية للكفار.
وأما لمحذوف، فما قدره ابن عطية لا يصح أن يغيا، لأن ما بعد الغاية مخالف لما قبلها، وهم عبدة منقادون دائمًا لا ينفكون عن ذلك، لا إذا فزع عن قلوبهم، ولا إذا لم يفزع، وحمل ذلك على الملائكة حال الوحي لا يناسب الآية، وكون النبي صلى الله عليه وسلم، في قصة الوحي قال: «فإذا جاءهم جبريل فزع عن قلوبهم» لا يدل على أن هذه الآية في الملائكة حالة تكلم الله بالوحي.
والحديث رواه ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «إذا تكلم الله عز وجل بالوحي سمع أهل السماء صلصلة كجر السلسلة على الصفا، فيصعقون، فلا يزالون كذلك حتى يأتيهم جبريل عليه السلام، فإذا جاءهم جبريل فزع عن قلوبهم، فيقولون: يا جبريل ماذا قال ربك؟ قال فيقول الحق، فينادون الحق» وما قدره الزمخشري يحتمل، إلا أن فيه تخصيص الذين زعمتم من دونه بالملائكة، والذين عبدوهم ملائكة وغيرهم.
وتخصيص من أذن له بالملائكة أيضًا، والمأذون لهم في الشفاعة الملائكة وغيرهم.
ألا ترى إلى ما حكى رسول الله صلى الله عليه وسلم، في الشفاعة في قوله عز وجل؟
وقرىء: فزع مشددًا، من الفزع، مبنيًا للمفعول، أي أطير الفزع عن قلوبهم.
وفعل تأتي لمعان منها: الإزالة، وهذا منه نحوه: قردت البعير، أي أزلت القراد عنه.
وقرأ ابن مسعود، وابن عباس، وطلحة، وأبو المتوكل الناجي، وابن السميفع، وابن عامر: مبنيًا للفاعل من الفزع أيضًا، والضمير الفاعل في فزع إن كان الضمير في عن قلوبهم للملائكة، فهو الله، وإن كان للكفار، فالضمير لمغويهم.
وقرأ الحسن: {فزع} من الفزع، بتخفيف الزاي، مبنيًا للمفعول، و {عن قلوبهم} في موضع رفع به، كقولك: انطلق يزيد.
وقرأ الحسن أيضًا، وأبو المتوكل أيضًا، وقتادة، ومجاهد: فزع مشددًا، مبنيًا للفاعل من الفزع.
وقرأ الحسن أيضًا: كذلك، إلا أنه خفف الزاي.
وقرأ عبد الله بن عمر، والحسن أيضًا، وأيوب السختياني، وقتادة أيضًا، وأبو مجلز: فرغ من الفراغ، مشدد الراء، مبنيًا للمفعول.
وقرأ ابن مسعود، وعيسى افرنقع: عن قلوبهم، بمعنى انكشف عنها، وقيل: تفرق.
وقال الزمخشري: والكلمة مركبة من حروف المفارقة مع زيادة العين، كما ركب قمطر من حروف القمط مع زيادة الراء. انتهى.
فإن عني الزمخشري أن العين من حروف الزيادة، وكذلك الراء، وهو ظاهر كلامه، فليس بصحيح، لأن العين والراء ليستا من حروف الزيادة.
وإن عنى أن الكلمة فيها حروف، وما ذكروا زائدًا إلى ذلك العين والراء كمادة فرقع وقمطر، فهو صحيح لولا إيهام ما قاله الزمخشري في هذه الكلمة، لم أذكر هذه القراءة لمخالفتها سواد المصحف.
وقالوا أيضًا في قوله تعالى: {حتى إذا فزع} أقوالًا غير ما سبق.
قال كعب: إذا تكلم الله عز وجل بلا كيف ضربت الملائكة بأجنحتها وخرت فزعًا، قالوا فيما بينم: {ماذا قال ربكم قالوا الحق}.
وقيل: إذا دعاهم إسرافيل من قبورهم، قالوا مجيبين ماذا، وهو من الفزع الذي هو الدعاء والاستصراخ، كما قاله زهير:
إذا فزعوا طاروا إلى مستغيثهم ** طوال الرماح لا ضعاف ولا عزل

وقيل: هو فزع ملائكة أدنى السموات عند نزول المدبرات إلى الأرض.
وقيل: لما كانت الفترة بين عيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم، وبعث الله محمدًا، أنزل الله جبريل بالوحي، فظنت الملائكة أنه قد نزل بشيء من أمر الساعة، وصعقوا لذلك، فجعل جبريل يمر بكل سماء ويكشف عنهم الفزع ويخبرهم أنه الوحي، قاله قتادة ومقاتل وابن السائب.
وقيل: الملائكة المعقبات الذين يختلفون إلى أهل الأرض، ويكتبون أعمالهم إذا أرسلهم الله فانحدروا، سمع لهم صوت شديد، فيحسب الذين هم أسفل منهم من الملائكة أنه من أمر الساعة، فيخرون سجدًا يصعقون، رواه الضحاك عن ابن مسعود.
وهذه الأقوال والتي قبلها لا تكاد تلائم ألفاظ القرآن، فالله أسأل أن يرزقنا فهم كتابه، وأقر بها عندي أن يكون الضمير في {قلوبهم} عائدًا على من عاد عليه اتبعوه وعليهم، وممن هو منها في شك، وتكون الجملة بعد ذلك اعتراضًا.
وقوله: {قالوا} أي الملائكة، لأولئك المتبعين الشاكين يسألونهم سؤال توبيخ: {ماذا قال ربكم} على لسان من بعث إليكم بعد أن كشف الغطاء عن قلوبهم، فيقرون إذ ذاك أن الذي قاله، وجاءت به أنبياؤه، وهو الحق، لا الباطل الذي كنا فيه من اتباع إبليس.
وشكنا في البعث ماذا يحتمل أن تكون ما منصوبة بقال، أي أي شيء قال ربكم، وأن يكون في موضع رفع على أن ذا موصولة، أي ما الذي قال ربكم، وذا خبره، ومعمول قال ضمير محذوف عائد على الموصول.
وقرأ ابن أبي عبلة: قالوا الحق، برفع الحق، خبر مبتدأ، أي مقوله الحق، {وهو العلي الكبير} تنزيه منهم له تعالى وتمجيد.
ثم رجع إلى خطاب الكفار فسألهم عمن يرزقهم، محتجًا عليهم بأن رازقهم هو الله، إذ لا يمكن أن يقولوا إن آلهتهم ترزقهم وتسألهم أنهم {لا يملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض} وأمره بأن يتولى الإجابة والإقرار عنهم بقوله: {قل الله} لأنهم قد لا يجيبون حبًا في العناد وإيثارًا للشرك.
ومعلوم أنه لا جواب لهم ولا لأحد إلا بأن يقول هو الله.
{وإنا} أي الموحدين الرازق العابدين، {أو إياكم} المشركين العابدين الأصنام والجمادات.
{لعلى هدى} أي طريقة مستقيمة، أو في حيرة واضحة بينة.
والمعنى: أن أحد الفريقين منا ومنكم لعلى أحد الأمرين من الهدى والضلال، أخرج الكلام مخرج الشك والاحتمال.
ومعلوم أن من عبد الله ووحده هو على الهدى، وأن من عبد غيره من جماد أو غيره في ضلال.
وهذه الجملة تضمنت الإنصاف واللطف في الدعوى إلى الله، وقد علم من سمعها أنه جملة اتصاف، والرد بالتورية والتعريض أبلغ من الرد بالتصريح، ونحوه قول العرب: أخزى الله الكاذب مني ومنك، يقول ذاك من يتيقن أن صاحبه هو الكاذب، ونظيره قوله الشاعر:
فأني ماوأيك كان شرًا ** فسيق إلى المقادة في هوان

وقال حسان:
أتهجوه ولست له بكفؤ ** فشركما لخيركما الفداء

وهذا النوع يسمى في علم البيان: استدراج المخاطب.
يذكر له أمرًا يسلمه، وإن كان بخلاف ما ذكر حتى يصغي إليه إلى ما يلقيه إليه، إذ لو بدأ به بما يكره لم يصغ، ولا يزال ينقله من حال إلى حال حتى يتبين له الحق ويقبله.
وهنا لما سمعوا الترداد بينه وبينهم، ظهر لهم أنه غير جازم أن الحق معه، فقال لهم بطريق الاستدلال: إن آلهتكم لا تملك مثقال ذرة، ولا تنفع ولا تضر، لأنها جماد، وهم يعلمون ذلك، فتحقق أن الرازق لهم والنافع والضار هو الله سبحانه.
وقيل: معنى الجملة استنقاص المشركين والاستهزاء بهم، وقد بينوا أن آلهتهم لا ترزقهم شيئًا ولا تنفع ولا تضر، فأراد الله من نبيه، وأمره أن يوبخهم ويستنقصهم ويكذبهم بقول غير مكشوف، إن كان ذلك أبلغ في استنقاصهم، كقولك: إن أحدنا لكاذب، وقد علمت أن من خاطبته هو الكاذب، ولكنك وبخته بلفظ غير مكشوف.
وأوهنا على موضوعها لكونها لأحد الشيئين، أو الأشياء.
وخبر {إنا أو إياكم} هو {لعلى هدى أو في ضلال مبين} ولا يحتاج إلى تقدير حذف، إذ المعنى: أن أحدنا لفي أحد هذين، كقولك: زيد أو عمرو في القصر، أو في المسجد، لا يحتاج هذا إلى تقدير حذف، إذ معناه: أحد هذين في أحد هذين.
وقيل: الخبر محذوف، فقيل: خبر لا وله، والتقدير: وإنا لعلى هدى أو في ضلال مبين، فحذف لدلالة خبر ما بعده عليه، فلعلى هدى أو في ضلال مبين المثبت خبر عنه، أو إياكم، إذ هو على تقدير إنا، ولكنها لما حذفت اتصل الضمير، وقيل: خبر الثاني، والتقدير: أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين، وحذف لدلالة خبر الأول عليه، وهو هذا المثبت {لعلى هدى أو في ضلال مبين} ولا حاجة لهذا التقدير من الحذف لو كان ما بعد أو غير معطوف بها، نحو: زيد أو عمرو قائم، كان يحتاج إلى هذا التقدير، وإن مع ما يصلح أن يكون خبرًا لأن اسمها عطف عليه بأو، والخبر معطوف بأو، فلا يحتاج إليه.
وذهب أبو عبيدة إلى أن أو بمعنى الواو، فيكون من باب اللف والنشر، والتقدير: وإنا لعلى هدى، وإياكم في ضلال مبين، فأخبر عن كل بما ناسبه، ولا حاجة إلى إخراج أو عن موضوعها.
وجاء في الهدى بعلى، لأن صاحبه ذو استعلاء، وتمكن مما هو عليه، يتصرف حيث شاء.
وجاء في الضلال بعن لأنه منغمس في حيرة مرتبك فيها لا يدري أين يتوجه.
{قل لا تسألون عما أجرمنا} هذا أدخل في الإنصاف وأبلغ من الأول، وأكثر تلطفًا واستدراجًا، حيث سمى فعله جرمًا، كما يزعمون، مع أنه مثاب مشكور.
وسمى فعلهم عملًا، مع أنه مزجور عنه محظور.
وقد يراد بأجرمنا نسبة ذلك إلى المؤمنين دون الرسول، وذلك ما لا يكاد يخلو المؤمن منه من الصغائر، والذي تعملون هو الكفر وما دونه من المعاصي الكبائر.
قيل: وهذه الآية منسوخة بآية السيف.
{قل يجمع بيننا ربنا} أي يوم القيامة، {ثم يفتح} أي يحكم، {بالحق} بالعدل، فيدخل المؤمنين الجنة والكفار النار.
{وهو الفتاح} الحاكم الفاصل، {العليم} بأعمال العباد.
والفتاح والعليم صيغتا مبالغة، وهذا فيه تهديد وتوبيخ.
تقول لمن نصحته وخوفته فلم يقبل: سترى سوء عاقبة الأمر.
وقرأ عيسى: الفاتح اسم فاعل، والجمهور: الفتاح.
{قل أروني الذين ألحقتم به شركاء} الظاهر أن أرى هنا بمعنى أعلم، فيتعدى إلى ثلاثة: الضمير للمتكلم هو الأول، والذين الثاني، وشركاء الثالث، أي أروني بالحجة والدليل كيف وجه الشركة، وهل يملكون مثقال ذرة أو يرزقونكم؟ وقيل: هي رؤية بصر، وشركاء نصب على الحال من الضمير المحذوف في ألحقتم، إذ تقديره: ألحقتموهم به في حال توهمه شركاء له.
قال ابن عطية: وهذا ضعيف، لأن استدعاء رؤية العين في هذا لا غناء له.
وقال الزمخشري: فإن قلت: ما معنى قوله: أروني، وكان يراهم ويعرفهم؟ قلت: أراد بذلك أن يريهم الخطأ العظيم في إلحاق الشركاء بالله، وأن يقايس على أعينهم بينه وبين أصنامهم، ليطلعهم على حالة القياس إليه والإشراك به.
و {كلا} ردع لهم عن مذهبهم بعد ما كسره بإبطال المقايسة، كما قال إبراهيم: {أف لكم ولما تعبدون من دون الله} بعد ما حجهم، وقد نبه على تفاحش غلطهم، وأن يقدروا الله حق قدره بقوله: {هو الله العزيز الحكيم} كأنه قال: أي الذين ألحقتم به شركاء من هذه الصفات؟ وهو راجع إلى الله وحده، أو هو ضمير الشأن كما في قوله: {قل هو الله أحد} انتهى.
وقول ابن عطية، لأن استدعاء رؤية العين في هذا لا غناء له، أي لا نفع له، ليس بجيد، بل في ذلك تبكيت لهم وتوبيخ، ولا يريد حقيقة الأمر، بل المعنى: أن الذين هم شركاء الله على زعمكم، هم ممن إن أريتموهم افتضحتم، لأنهم خشب وحجر وغير ذلك من الحجارة والجماد، كما تقول للرجل الخسيس الأصل: أذكر لي أباك الذي قايست به فلانًا الشريف ولا تريد حقيقة الذكر، وإنما أردت تبكيته، وأنه إن ذكر أباه افتضح.